في المدن الصينية الكبيرة يتم استخدام تطبيقات لمراقبة سلوك السكان و لردود أفعالهم بل و تقييم عملهم في المجتمع، فاعتمادا على تقنيات البلوتوث لنسخ المعلومات الشخصية ، و تقنيات الجي بي أس لتحديد المواقع و التتبع ، و بناء على مقاربة أن حياة الفرد يجب أن توفر الأمن و السلامة للمجتمع و أن استقرار المجتمع أهم بكثير من الحريات الفردية و الخصوصيات ، فتتم متابعة الفرد في الصين انطلاقا من أنظمة المراقبة المتوفرة في كل مكان ، و كذلك عن طريق الهاتف و يتم تنقيط الأداء في المجتمع ، فإذا رمى بعض الأوساخ في الشارع تخصم 100 نقطة من رصيده، و كذلك إذا أوقف سيارته في مكان غير مرخص ، أو نزع غصن شجرة أو قام بإزعاج الساكنة ، فكل ذلك يؤدي إلى نزع نقاطه من التقييم الاجتماعي، أما إذا قام بمساعدة أعمى بأن قاده فستضاف 100 نقطة لرصيده ، أو بلغ عن عصابة أو تجار مخدرات فستتم زيادة نقاط لرصيده، و انطلاقا من توحيد المعلومات و مركزتها فعندما يبلغ رصيده مرحلة متدنية فسيمنع من شراء تذاكر سفر أو التمتع بالحجز في الفنادق أو شراء الهدايا لأصدقائه و أقاربه ، و في مرحلة معينة سيتم منعه من سحب النقود من الصرافات أو الحصول على سلفات من البنوك ، بل تسجل رسالة على هاتفه ترد على أي متصل أنه صار ضعيف الأداء في المجتمع و أنه عليه أن ينصحه لتحسين أدائه، باختصار هذا النوع من المراقبة هو ما استطاعت من خلاله الصين أن تتغلب على فيروس كورونا و تقهر الوباء بواسطة معرفة درجة حرارة كل شخص و تتبعه من خلال هاتفه و تمركزه ، بل معرفة الذين يخرقون الحجر الصحي و يزورون المرضى من غير ترخيص.
نعم استطاعت الصين أن تنجح في قهر المرض و توفر السلامة و الصحة لمواطنيها ، و لكنها بذلك كانت تقتل آخر ذرة من الحرية الفردية التي طالما طالبت بها الشعوب و اعتبرتها مكسبا اجتماعيا قامت عليه الحروب و الثورات و الانقلابات ، بل و سجن من أجله الملايين و مات جلهم من أجله، و حسب الثقافات الغربية التي طالما مجدت الحريات الفردية و صاغت قوانينها من أجل المحافظة على هذه الحريات و كذلك تبارى ساستها و روادها و مثقفوها في الإعلاء من شأت تلك الحريات و ضرورة المحافظة عليها، فقد وقفت هذه الدول مبهورة أمام أداء الصين في هذه الجائحة ، بل و صار البعض يراجع مواقفه من الحريات الفردية أمام هذا المرض الذي ضرب كل ما تم إنجازه من رعاية صحية و برامج تأمين صحي فظهرت دول مثل إيطاليا و فرنسا و اسبانيا عاجزة عن توفير الصحة و السلامة لمواطنيها، بل ظهرت البنى التحية ضعيفة و عاجزة عن استقبال الكم الهائل من المرضى .. و توقفت الحركة نتيجة العزل و أقفلت الأسواق و توقف النشاط الاقتصادي عامة ، و صارت الدول تعتمد على مدخراتها، و سخرت السياسة و الثقافة و الاقتصاد للجانب الصحي و الأمني الذين ظلا متلازمين في هذه المحنة و ظلت الحاجة لهما شديدة.
قبل هذه الفترة كنا نعرف جيدا الضرر الذي وقع على الحريات الشخصية إبان أحداث 11 سبتمبر حيث تم تشريع تتبع المكالمات الهاتفية للجميع، و تمت مراقبة الجميع لأن أمن الجميع يتطلب ذلك و يحتاجه.و هذه المرة ستتم مراقبة الجميع و بشكل دقيق حتى تفاصيل صحته و تحركاته بل و الناس الذين يلتقي بهم و يحادثهم ، و كذلك فصحة الجميع تحتاج مراقبة الجميع ، بل و التدخل إن دعت الضرورة لرد الأوبئة و مكافحتها.
في أوروبا و خصوصا فرنسا بدأوا يطورون تطبيقا لمكافحة فيروس كورونا استعدادا للموجات اللاحقة، يقولون إنهم سيحافظون على الخصوصيات و المعلومات الخاصة لكل المشتركين في الهواتف الذين بدأت شركات الاتصال توفر معلوماتهم للأنظمة، لكي يتم تحليلها و بناء استراتيجيات عليها، ففي الأسبوع الأول من شهر مارس أبدت البيانات أن مليون و نصف فرنسي خرجوا منطقة باريس الكبرى متوجهين إلى مدن أخرى و قرى، فتم بناء إستراتيجية توزيع الخدمات الصحية و تمركزاتها في الداخل بناء على تلك المعلومات.
يعرف الجميع أن الفرد عنصر في مجتمع معين يقوم بدور فيه ، و تناط به مهام و واجبات و دور يلعبه في حياة ذلك المجتمع، لكن له كذلك هامش من الحريات و الخصوصيات يحتاجها و يدفع ثمنها، فهل ستتقلص هذه الحريات و تلك الخصوصيات على حساب توفير الصحة و السلامة للجميع، أم أن المجتمعات الليبرالية ستتمكن من دحر كورونا و إقامة نظام عالمي جديد تحافظ فيه على الحريات الفردية و مكتسبات تلك الحضارة؟ أم أن الأنظمة الشمولية ستفرض نموذجها انطلاقا من أهمية المجتمع و وجوب المحافظة على أمنه و سلامته ؟؟