كتب الأستاذ د. الشيخ أحمد البان:
كلام حول الحلقة الأخيرة من الأمالي:
سلّم الله صاحب الأمالي وأدامه، فكم شنف من مسمع وكم صحح من خطأ.
لكن الحلقة الأخيرة من أماليه يمكن رفعها حجةً على صحة المقولة: "قيمة كل امرئ ما يحسنه"، وصاحب الأمالي -مع أن تخصصه ليس الأدب- يحسن نقل مرويات الأدب العربي شعرا ونثرا، وهو مع ذلك فصيح اللسان صحيح الإعراب لقِنٌ في العروض، وهذه ميزة حبا الله بها متعلمي هذا المنكب المنكوب.
لكن رواية قصص ومناسبات القصائد والأخبار ليست هي معرفة تاريخ الأدب ونقد النصوص والموازنة بين الشعر والشعراء، وقد كان الأقدمون أوسع باعا منا في هذه المسألة، قال الجاحظ: "طلبت علم الشعر عند الأصمعي فوجدته لا يحسن إلا غريبه، فرجعت إلى الأخفش فوجدته لا يتقن إلا إعرابه، فعطفت على أبي عبيدة فوجدته لا ينقل إلا ما اتصل بالأخبار، وتعلق بالأيام والأنساب، فلم أظفر بما أردت إلا عند أدباء الكتاب: كالحسن بن وهب، ومحمد بن عبد الملك الزيات".
لا مناص من التفريق بين هذه العلوم، وإدراك أن معرفة واحد منها ليس تأشيرة "شنغن" لبقيتها، ولا معرة في ذلك، وجمع العالم في واحد سائغ في قدرة الله، لكنه غير متحقق في قدَرِه.
لقد ابتعدت الأمالي في الحلقة الأخيرة عن مجالها، واقتحمت مجالا هي في غنى عنه، والتعويل عليها وعلى قيمتها المعرفية يدفع لتوجيهها وانتقادها بما يفيدها ويرفعها.
ليس من المنهج العلمي الانطلاق من لجنة تحكيم برنامج أمير الشعراء للحكم على حركة النقد والأدب وعلى مناهج التعليم ومخرجاته، فهذا البرنامج لا يمثل النقاد ولا الشعراء، ولا يمثل التعليم ولا مخرجاته، وهذه المسألة لا تحتاج برهانا يعضدها، فالتعليم التقليدي والحديث كلاهما له فشلة وناجحون.
إن النخبة المتميزة من النقاد والأدباء في العالم العربي أكثر من الثلة الفاشلة، لكن الأولى تأنف -كغيرها من شرفاء الأمة- من التزلف للظلمة الذي هو الطريق اللاحب للظهور على هذه الشاشات وجعلها جسرا لربح شركات الاتصال على حساب وعي الأمة وعلمها، ومن يلتقي بها في المؤتمرات العلمية يعرف قيمتها ومكانتها، ولكل فن سدنة وأدعياء.
الحكم على الشعر الحديث بأدوات النقد القديم موقف غير علمي أولا، وغير مجدٍ شيئا في حركة المجتمع الشعرية والأدبية، ثار محافظو القرن الثاني الهجري على تجديد أبي نواس ابن المدينة الذي دعاهم لترك البكاء على الأطلال التي لا يعيش قضيتها في حياة بغداد الهادرة بقضايا أخرى، وثار متكلسة القرن الرابع الهجري على أبي الطيب منتقدين ما يرتكبه من زيغ إعرابي وانتهاك صرفي، بُحَّت حناجر أولئك وانطفأ ذكرهم، وبقي أبو نواس وأبو الطيب يتردد صداهما في العالمين.
هناك مسألة أخرى لا تليق ببرنامج الأمالي الماتع المفيد، وهو التوظيف العائم لمصطلح الحداثة، فالحداثة مذهب فلسفي قبل أن يكون توجها أدبيا، وليس كل شعر يحمل أخيلة وصورا ومقاربة معنوية جديدة يعتبر شعرا حداثيا.
الإطلاق العاطفي لا يناسب المحتوى السائر المؤثر، لأنه خيانة لجمهور المتلقين، وتعبئة جزافية لعواطف العامة، لا يطور الوعي ولا ينهض بالواقع، ومطلقه يعطي للمتأمل الناقد الحق في أن يحكم عليه -وهو هنا غير متنزِّلٍ على محل بلغة الأصوليين- بجهل سيرورة وصيرورة تحول الشعر والنثر العربيين، وسياقات ذلك الاجتماعية والسياسية والفكرية، فلو لم يكن الأدب ابن زمانه ومجتمعه لبقي نموذج القصيدة الجاهلية معيار جودة لدى الإسلاميين والأمويين والعباسيين وغيرهم.
لعل مدخل الإجابة على سؤال لماذا تبدل عمود الشعر العربي بعد المرزوقي هو الإجابة على سؤال آخر يقول: لماذا اختفت "المقامات" رغم تشبث ناصيف اليازجي بأذنابها يوم الفراق وأدمعه مستهلات في كتابه "مجمع البحرين"؟ ولعل الإجابتين يمكن جعلهما مدخلا لدراسة سياقات نشأة القصيدة الحديثة.
الخلاصة أن هذه الحلقة -ومثيلاتها في بابها من الأمالي- تعود بالنقض على فكرة الأمالي ذاتها، لأنها توهم بقطيعة بين اللغة العربية وآدابها، وتقول بلسان فصيح إننا أهل هذا المنكب نعيش برزخا معرفيا، ولدينا ممانعة سلبية للحديث والراهن، وأننا نعيش في الماضي، والماضي لا يمكنه أن يحرك الحاضر أحرى المستقبل ما لم ينطلق من أهمية اكتشاف العَجَلَة وتطور الدينومو.
ينبغي أن يلزم أخي الشاب اللطيف شكلا وصوتا الثقِفُ اللقِنُ منهجه الذي تميز به في حلقاته الماتعة، وأن يترك ما لا يحسنه، فلم يضر الأصمعي أنه لا يحسن إلا الغريب حسب قولة أبي عثمان السابقة.
الزم منهجك أخي الكريم فهناك ستجد قيمتك ومكانتك ومتابعيك.
وفقك الله