كانت الصحافة حتى وقت قريب تفخر بكونها تحمل اسم السلطة الرابعة، ومع تراجع مستوى الحريات في وسائل الإعلام في كثير من الدول، ومع انهيار بعض المؤسسات الإعلامية الكبرى إما بالإغلاق أو بالوقوع تحت سلطة المعلن، فإن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت تملك من القوة والتأثير الكثير، الأمر الذي جعل سؤالاً جديداً يطرأ، هل أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي "سلطة خامسة"؟
مع تقدم التكنولوجيا كانت وسائل التواصل الاجتماعي تتطور أيضا، وتطور من أدواتها وطرق استقطابها، وهنا كان العالم ينقسم إلى أكثر من معسكر كالتالي:
* معسكر اهتم بهذه الوسائل منذ البداية، فصنع منصاته، وتماهى معها، وبدأ يصنع نجوماً يمثلونه ويصنعون التأثير المحلي والإقليمي والدولي.
* معسكر استهجن هذه الوسائل، وسخر منها، وقلل من تأثيرها، ووجد أنها مثلها مثل الألعاب الإلكترونية، مضيعة وقت.
* معسكر حاول جرها لسلطة الإعلام الرابع، حيث خلط بين منصات التواصل الاجتماعي والاعلام الالكتروني، فسماها بجلها "الإعلام الجديد"، وحاول ولايزال أن يجعلها خاضعة لسلطة القانون، ومفاهيم الإعلام وأدواته.
* معسكر حارب هذا الغزو الغربي، وصنع أدواته الخاصة به، وحارب كل المنصات الأجنبية، تحت أعذار مختلفة، وسيطر على حدوده التكنولوجية التي يرى أنها تشكل جزءاً من أمنه القومي.
وهكذا تعامل العالم بشكل متنوع ومختلف مع وسائل التواصل الاجتماعي التي باتت اليوم جزءاً من الحياة اليومية للجميع، بل وصلت عند البعض لأن تكون هي حياته اليومية والعالم الحقيقي جزء من حياته.
لا شك اليوم أن وسائل التواصل الاجتماعي (فيسبوك- تويتر- تيك توك- سناب شات- إنستغرام- وغيرها)، تشكل قوة تأثير هائلة لدى السلطات التنفيذية في كل العالم، ولعل تويتر وفيسبوك يتصدران هذه المنصات من ناحية التأثير في صناعة القرار، وبات ذلك واضحاً من خلال استخدام الساسة له للتأثير على الشعوب واستخدام الشعوب له للتأثير على القرارات المحلية أو الدولية.
لكن منصة سناب وإنستغرام حظيت بقوة تأثير الأشخاص الذين تمت صناعتهم ليكونوا مؤثرين، سواء من خلال منهجية سياسية أمنية خفية، أو من خلال صناع إعلان نجحوا في صناعة صناع دعاية.
فكرة السيطرة على وسائل التواصل الاجتماعي من خلال سن قوانين وتشريعات تضيق على المستخدمين أصبحت فكرة بالية، بالضبط كما تعتقد بعض الدول أنها يمكن أن تقوم بحجب المواقع الإلكترونية، في الحقيقة إن إغلاق المواقع والتضييق يدفع الناس لاستخدام برامج الاختراق التي تملكها أجهزة أمنية وشركات مشكوك فيها حول العالم، وبالتالي تعرض المعلومات الشخصية لمواطنيك للاختراق والانتشار.
لو نظرنا للتأثير الإعلاني لسوق مواقع التواصل الاجتماعي لوجدنا أنه في العام 2017 تخطى لأول مرة سوق الإعلان التلفزيوني، وعندما نقول أنه تخطى الإعلان التلفزيوني فلك أن تتخيل حجم ما حصل عليه من دخل سوق الإعلان التلفزيوني والإذاعي والصحفي.
في دراسة جديدة لموقع ماركتر للأبحاث التسويقية، توقع أن يصل حجم الإنفاق الإعلاني على شبكة الانترنت في العام 2022 إلى457 مليار دولار، بينما رصد في العام 2020 إنفاقاً بلغ 380 مليار دولار.
رقم مهول تحلم به دول، فما بالك بوسائل إعلام تقليدي. هل تعتقد أن هذا الحجم من الإنفاق كان للترويج فقط، لك أن تتخيل حجم التأثير الإعلاني، السياسي، الفكري، السلوكي، الاستهلاكي الذي شكله هذا الإنفاق، ولك أن تتخيل عدد المؤثرين الذين صنعهم هذا الإنفاق الإعلاني والذين باتوا اليوم بسبب هذا الدعم الإعلاني ينظرون في قضايا أخرى غير الإعلان ويتم استخدامهم لنشر أجندات متنوعة تؤثر في الوعي الجمعي للمتلقين.
من جانب آخر كان لهؤلاء المؤثرين أيضا سلطة التأثير والتغيير السياسي في دول عدة، كما أن المؤثرين اليوم بات لهم تأثير كبير في توجيه الناس للاختيار الاستهلاكي، وبنفس القدر الاختيار السياسي، فيكفي أن يؤيد أحد المؤثرين حزباً سياسياً ليساهم في صناعة أرضية شعبية له، أو أن يدعم قانوناً أو تشريعاً أو يقف ضده فيشكل أداة ضغط كبيرة لإقراره أو إلغائه، أو أن يقف مع مرشح ضد الآخر فيحول الأصوات لطرف على الآخر، ويساهم في اختيار قيادات الدول.
الأمر لم يعد بسيطا كما يتخيل البعض، لهذا ستكون وسائل التواصل الاجتماعي سلطة خامسة بقوة الفرض، وقوة التأثير، والدول التي لا تتعاطى بشكل سليم معها ستغرقها أمواجها العاتية، فلا هي التي ستكون قادرة على الوقوف في وجه تطورها والقيمة الإعلانية والسياسية لملاكها، ولا هي التي ستنجح في أن تعزل نفسها عن عالمها مهما شرعت من قوانين وفرضت من عقوبات.
قوة التأثير والحجم الإعلاني ستجعل مُلاك المنصات يتحكمون في كل شيء، وأي شيء، ويمكن بعيداً عن وسائل التواصل الاجتماعي أن نأخذ أمازون كمثال، وكيف أنها تقوم بالقضاء على الشركات الصغيرة والمتوسطة لتسيطر على السوق، وهو الأمر نفسه التي تقوم به شركة فيسبوك وتويتر وغيرها بشراء كل التطبيقات والمنصات الناشئة وامتلاك حقوقها.
لازال العالم يتساءل، كيف ولماذا اشترى مالك فيسبوك تطبيق الواتساب بـ 19 مليار دولار، وهو تطبيق غير إعلاني ولا يدر المال والربح، الجواب كان بسيطا للمطلعين على تعاون مالك التطبيق الجديد مع المعلومات الشخصية في التطبيق، والمؤسسات الأمنية لدول مختلفة.