تخصص الفقه والأصول.
دعيت أمس من طرف الاتحاد العام لطلبة موريتانيا- فرع المعهد العالي- لإلقاء محاضرة في ندوة نظمها لإبراز أهمية التخصصات ومكانتها وآفاق سوق العمل لها..
وعهد إلي بالتحدث عن مكانة الفقه والأصول.
ومما ذكرت في هذه المحاضرة:
1- أن هذا التخصص يكفيه أهمية أن الله أشهد أهله على التوحيد:"شهد الله أنه لا إله إلا هو والملئكة وأولوا العلم".
وعلماء الشريعة يدخلون في "أولي العلم" دخولا أوليا إن لم يكن ذلك خاصا بهم.
2- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" .
3- أن أبا حامد الغزالي أبان في مقدمة كتابه الجميل المستصفى في أصول الفقه عن مكانة هذا التخصص ودوام صلاحيته لسوق العمل في الدنيا والآخرة حيث يقول:
(العلوم ثلاثة: عقلي محض لا يحث الشرع عليه ولا يندب إليه كالحساب والهندسة والنجوم..
ونقلي محض كالأحاديث والتفاسير؛ والخطب في أمثالها يسير؛ إذ يستوي في الاستقلال بها الصغير والكبير؛ لأن قوة الحفظ كافية في النقل وليس فيها مجال للعقل.
وأشرف العلوم ما ازدوج فيه العقل والسمع واصطحب فيه الرأي والشرع؛ وعلم الفقه وأصوله من هذا القبيل؛ فإنه يأخذ من صفو الشرع والعقل سواء السبيل؛ فلا هو تصرف بمحض العقول بحيث لا يتلقاه الشرع بالقبول؛ ولا هو مبني على محض التقليد الذي لا يشهد له العقل بالنأييد والتسديد.
ولأجل شرف علم الفقه وسببه وفر الله دواعي الخلق على طلبه؛ وكان العلماء به أرفع العلماء مكانا وأجلهم شانا؛ وأكثرهم أتباعا وأعوانا ).
فهو علم يختص "بفوائد الدين والدنيا وثواب الآخرة والأولى" على حد تعبيره أيضا..
4- أن الاشتغال بعلم الفقه أولى من الاشتغال بعلم الكلام.
قال أبو حامد الغزالي في كتابه الاقتصاد في الاعتقاد:
"من أنس من نفسه تعلم الفقه أو الكلام وخلا الصقع عن القائم بهما ولم يتسع زمانه للجمع بينهما واستفتى في تعيين ما يشتغل به منهما؛ أوجبنا عليه الاشتغال بالفقه، فإن الحاجة إليه أعم والوقائع فيه أكثر فلا يستغني أحد في ليله ونهاره عن الاستعانة بالفقه. واعتوار الشكوك المحوجة إلى علم الكلام باد بالإضافة إليه..."
5- الاشتغال بالفقه أولى من الاشتغال بالطب.
يقول أبو حامد الغزالي في كتابه الاقتصاد في الاعتقاد أيضا:
"كما أنه لو خلا البلد عن الطبيب والفقيه كان التشاغل بالفقه أهم؛ لأنه يشترك في الحاجة إليه الجماهير والدهماء. فأما الطب فلا يحتاج إليه الأصحاء، والمرضى أقل عدداً بالإضافة إليهم؛ثم المريض لا يستغني عن الفقه كما لا يستغني عن الطب وحاجته إلى الطب لحياته الفانية وإلى الفقه لحياته الباقية وشتان بين الحالتين؛ فإذا نسبت ثمرة الطب إلى ثمرة الفقه علمت ما بين الثمرتين؛ ويدلك على أن الفقه أهم العلوم اشتغال الصحابة رضي الله عنهم بالبحث عنه في مشاورتهم ومفاوضاتهم؛ ولا يغرنك ما يهول به من يعظم صناعة الكلام من أنه الأصل والفقه فرع له؛ فإنها كلمة حق ولكنها غير نافعة في هذا المقام، فإن الأصل هو الاعتقاد الصحيح والتصديق الجزم وذلك حاصل بالتقليد والحاجة إلى البرهان ودقائق الجدل نادرة؛ والطبيب أيضاً قد يلبس فيقول وجودك ثم وجود بدنك موقوف على صناعتي وحياتك منوطة بي فالحياة والصحة أولاً ثم الاشتغال بالدين ثانياً؛ ولكن لا يخفى ما تحت هذا الكلام من التمويه وقد نبهنا عليه".
6- أن أبا حيان أمير المؤمنين في النحو كما سماه الصفدي ندم على تفريطه في تخصص علم الفقه وتقديم تخصص النحو عليه فقال في قصيدته التي مطلعها:
غذيت بعلم النحو إذ در له ثديا @
فجسمي به ينمو وروحي به تحيا..
ثم بدأ يعلن ندمه:
وقد طال تضرابي لزيد وعمره @
وما اقترفا ذنبا ولا تبعا غيا @
وما نلت من ضربيهما غير شهرة@
بفن وما يجدي اشتهار به شيا @
ثم أعلن هجر النحو والاتجاه إلى الفقه فقال:
سأتركه ترك الغزال لظله @
وأبعده هجرا وأوسعه نأيا @
وأسمو إلى الفقه المبارك إنه @
ليرضيك في الأخرى ويحظيك في الدنيا.
هل الفقه إلا أصل دين محمد @
فجرد لها عزما وجدد له سعيا.
فعليكم بالفقه وأصوله فإنه يحظيكم في الدنيا ويرضيكم في الأخرى كما قال لكم أبو حيان.