تمهيد
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على نبيه الكريم
تحريم مصافحة الأجنبية وجسها والتلذذ بكلامها والنظر إليها مما علم من الدين بالضرورة
وسبق أن ألفت في الموضوع سنة 1988م مؤلفا بعنوان أدلة تحريم مصافحة الأجنبية من الكتاب والسنة والإجماع سقت فيه الأدلة وآراء المذاهب الفقهية وآراء العلماء الموريتانيين وتساءلت لماذا التخصص محترم في كل مجال إلا في الشريعة الإسلامية فالزراعة لا يحق لأحد التكلم فيها إلا المهندسين الزراعيين والأعشاب ومركباتها للصيادلة والأمراض للأطباء فلماذا لا يحترم التخصص في الشريعة وكأنها نص أدبي يحق لكل شخص إبداء الرأي فيه.
فالعلماء –وإن لم أكن منهم- أعطاهم الله حق الاستنباط واستخراج الأحكام وجعل آراءهم حجة بدليل قوله تعالى: "ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم" والاستنباط يختص به العلماء الذين درسوا علم الأصول لتمكنهم من تقنيات استخراج الأحكام فيما يعرف بمسالك العلة والسبر والتقسيم.
أدلة مصافحة الأجنبية من القرءان الكريم:
الإعجاز القرءاني شامل لكافة الأوجه، فالإعجاز اللغوي مثلا أن في القرءان كلمات لا تستطيع اللغة العربية ترجمتها مثل الأفق الأعلى وقاب قوسين ... الخ.
والإعجاز النحوي أنه لا تستطيع أي لغة بما فيها اللغة العربية أن تنطق ثلاثة أفعال مضارعة متتالية، وأن القرءان نطقها، قال تعالى: وهي تفور تكاد تميز"
والإعجاز التشريعي حيث أن صيغ الوجوب ثلاثة، هي: فعل الأمر وحكاية القول والمفهوم، وهو قسمان: مفهوم الموافقة ومفهوم المخالفة، ومفهوم الموافقة: هو ما وافق المنطوق في حكمه، كضرب الوالدين ومصافحة الأجنبية ... الخ.
يقول سيدي عبد الله بن الحاج ابراهيم في مراقي السعود:
إعطاء ما للفظة المسكوتا من باب أولى نفيا أو سكوتا
مثل قوله تعالى: "ولا تقل لهما أف" حيث نهى عن الأخف وهو التأفف من باب أحرى الضرب أو الخنق..
ومثاله في مصافحة الأجنبية : "قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم" من باب أحرى المس ومن باب أحرى المصافحة.
أدلة تحريم المصافحة من السنة المطهرة
الحديث الأول:
"لا، والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط غير أنه كان يبايعهن بالكلام، قالت عائشة: والله ما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على النساء إلا بما أمره الله تعالى وما مست كف رسول الله صلى الله عليه وسلم كف امرأة قط، وكان يقول لهن إذا أخذ عليهن: قد بايعتكن كلاما " وسنورد هذا الحديث برواياته.
الحديث الثاني:
عن أسماء بنت يزيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع نساء المسلمين للبيعة، فقالت له أسماء: ألا تحسر لنا عن يدك، فقال: إني لا أصافح النساء" وسنورد هذا الحديث برواياته.
اللمس في اللغة : جاء في القاموس المحيط : مسسته بالكسر أمسه مسا ومسيسا أي لمسته.
وجاء في لسان العرب لغة: مسسته بالكسر أمسه مسا ومسيسا.
وجاء في اللسان أيضا: المصافحة لغة : الأخذ باليد والتصافح مثله، والرجل يصافح الرجل إذا وضع صفح كفه في صفح كفه وصفحا كفيهما ووجهيهما، وهي مفاعلة من إلصاق صفح الكف بالكف وإقبال الوجه على الوجه.
وترجم البخاري للمصافحة، وقال الحافظ في الفتح شارحا لها: المصافحة المراد بها الإفضاء بصفحة اليد على صفحة اليد.
الحديث الأول: من أصح الأحاديث فقد أخرجه البخاري في كتاب الشروط وكتاب التفسير وكتاب الطلاق وكتاب الأحكام. وأخرجه مسلم في كتاب الإمارة . وأبو داود في كتاب الإمارة . والنسائي في كتاب البيعة. والترمذي في كتاب التفسير. وابن ماجه في كتاب الجهاد. والإمام مالك في كتاب البيعة. والإمام أحمد في المسند. والرواية التي اتفق عليها البخاري ومسلم: عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كانت المؤمنات إذا هاجرن لرسول الله صلى الله عليه وسلم يمتحنهن، يقول الله عز وجل : يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن .. إلى آخر الآية، قالت عائشة: فمن أقر بهذا من المؤمنات فقد اقر بالمحنة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقررن بذلك من قولهن قال لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم: انطلقن فقد بايعتكن لا والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط غير أنه كان يبايعهن بالكلام، قالت عائشة: والله ما اخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على النساء إلا بما أمره الله تعالى وما مست كف رسول الله صلى الله عليه وسلم كف امرأة قط ، وكان يقول لهن إذا أخذ عليهن قد بايعتكن كلاما"
وفي رواية أخرى: " فمن أقر بهذه الشرط منهن، قال لها رسول الله صلى عليه وسلم: قد بايعتكن كلاما يكلمها به والله ما مست يده يدر امرأة قط في المبايعة وما بيعهن إلا بقوله"
فأمنا عائشة رضي الله عنها وهي من أعلم الصحابة ومن المكثرين للسنة نفت وأقسمت بأن يد رسول الله صلى الله عليه وسلم الشريفة لم تصافح يد امرأة قط، ثم إنها أقسمت بالله الذي لا إله إلا هو والتي هي اليمين في كل حق لقوله صلى الله عليه وسلم : "من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت".
وهكذا وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في موقف تعليمي أمام سكان مكة المكرمة وعشرة آلاف مجاهد ليعلهم بحرمة مصافحة الأجنبية، فعندما يأتيه رجل يمد له يده الشريفة وعندما تأتيه امرأة يمسك عنها يده، وعندما تسأله لماذا لا يمد لها يده؟ فيقول لها صلى الله عليه وسلم: إني لا أصافح النساء.
وتعالى أخي القارئ إلى كلام شراح أهم مصادر السنة المطهرة لهذا الحديث:
قال الحافظ في فتح الباري بشرح صحيح البخاري: وفي الحديث منع لمس بشرة الأجنبية واستشهد بحديث صحيح لفظه: "كلاما يكلمها به ولا يبايع بضرب اليد باليد.
وفي كتاب التفسير، قال: كلاما فقط لا مصافحة باليد كما جرت العادة بمصافحة الرجال عند البيعة، وقال أيضا: في الحديث منع لمس بشرة الأجنبية.
وقال الإمام النووي: وفي الحديث أن بيعة النساء كانت بالكلام من غير أخذ كف إلى أن قال: وأنه لا يمس بشرة الأجنبية.
وقال الحافظ ابن العربي في العارض على شرح الترمذي في شرح حديث : وما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ... الحديث.
فعبر عن القول بالفعل الذي يبايع به الرجال.
وجاء في عون المعبود على سنن أبي داود: وفيه أنه لا يمس بشرة أجنبية
وجاء في شرح السيوطي للنسائي عند قوله هلم نبايعك أي باليد على انفراد فان البيعة باليد لا يتصور فيها الاجتماع، ولذلك أجابهن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفي الأمرين، فقال: إني لا أصافح النساء، وفي رواية أخرى: وما مست يده يد امرأة قط إلا امرأة يملكها"
وجاء في الفتح الرباني: يعني بزواج أو ملك يمين وأحاديث الباب تدل على تحريم مصافحة الأجنبية ولمس بشرتها من غير حائل.
وفي شرحه لبعض الروايات الأخرى لهذا الحديث، قال: "ولا يمس إلا امرأة أحلت له أو ذات محرم له صلى الله عليه وسلم"
أما الحديث الثاني: فهو حديث : إني لا أصافح النساء" فأورده الإمام مالك في الموطأ في كتاب البيعة، والنسائي في كتاب البيعة، وابن ماجه في كتاب الجهاد، والإمام أحمد في المسند، ولفظ الحديث الذي رواه هؤلاء الأئمة، عن أميمة بنت رقيقة قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة من المسلمين لنبايعه، فقلنا يا رسول الله جئنا نبايعك على أن لا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيك في معروف، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فيما استطعتن وأطعتن، قالت : قلنا الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا بايعنا يا رسول الله، قال : اذهبن فقد بايعتكن إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة قالت: ولم يصافح منا رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة"
وفي رواية: "قلنا يا رسول الله ألا تصافحنا؟ فقال: إني لا أصافح النساء"
وفي رواية أخرى: "لست أصافح النساء"
وفي رواية : "فقلت يا رسول الله بايعنا، قال سفيان تعني صافحنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة"
وفي رواية أسماء بنت يزيد: "أن رسول الله جمع نساء المسلمين للبيعة، فقال له أسماء: ألا تحسر لنا عن يدك، فقال: إني لا أصافح النساء ولكن آخذ عليهن.
وفي رواية عمر بن شعيب عن جده : كان لا يصافح النساء في البيعة.
قال الحافظ: ابن عبد البر في الاستذكار في شرحه لراوية الإمام مالك فيه دليل على أنه لا يجوز لرجل أن يباشر امرأة لا تحل له.
وقال الحافظ ابن العربي في شرحه لرواية الترمذي في العارضة: ولم يصافحهن لما أوعز الله إلينا من الشريعة من تحريم المباشرة لهن إلا لمن يحل له ذلك منهن .
وقال السيوطي في شرح سنن النسائي عند قوله : إني لا أصافح النساء أي باليد.
وقال السندي في شرحه للنسائي في الحاشية في رواية أم عطية عند قولها : هلم نبايعك أي تبايع كل واحدة منا باليد على الانفراد، فإن البيعة باليد لا يتصور فيها الاجتماع ولذا أجابهن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفي الأمرين ، فقال إني لا أصافح النساء أي باليد...
وجاء في الفتح الرباني على مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني عند قوله صلى الله عليه وسلم: إني لا أصافح النساء يعني النساء الأجانب في البيعة أي لا يقع كفه على كف الواحدة بل يبايعها بالكلام إلى أن قال وإذا كان هو لم يفعل ذلك مع عصمته وانتفاء الريبة عنه فغيره أولى.
وأختتم هذا الموضوع بالحديث الذي أخرجه الطبراني وهو : لو أن يؤتى بمخيط ويطعن في الرأس خير للرجل من أن تمس يده يد امرأة لا تحل له.
وفي رواية: لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له.
ولو سلمنا جدلا بأن عالما أفتى بجوازها، فإن صاحب تلك الفتوى مهما كان قوله مردود وفتواه يضرب بها عرض الحائط لمخالفتها لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لأنه مما علم بالضرورة تحريم مصافحة الأجنبية وجسها والتلذذ بكلامها والنظر إليها إلا أن النظر بغير لذة كالإشهاد وغيره مستثنى.
ومما علم أيضا أن من إجماعيات الردة إنكار ما علم من الدين بالضرورة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين